---------------------------------------------------------
سنتوقف بعض الوقت مع هذه الشخصية حيث الجدل الواسع و الصخب الإعلامي من ممجديه لدرجة انهم لم يكتفوا بملئ مناهج الدراسة التي تلقن إلى تلاميذنا و كذا الكتب و الصحف و الموسوعات فملؤوا بها الإذاعات و القنوات المرئية والمواقع الرقمية !!
بل لم يتركوا غير منافذ ضيقة لمن يروون التاريخ الصحيح و يقولون كلمة الحق فحاصروهم داخل كتبهم و من ثم ضيقوا على مؤلفيها و حاربوهم بكل الوسائل فى فترات التضليل في القرن الماضي و ربما إلى اليوم .
-------------------------------------
🔹️ ترجمة قصيرة عن نشأة محمد علي و أسرته وصفته و طباعه كما ذكرها "جي فارجيت" في كتابه : " محمد علي مؤسس مصر الحديثة" ... ولا تختلف هذه الترجمة كثيرا عن كتابات الممجدين لمحمد علي ؛ إلا أن المؤلف ذكر أشياء خجل من ذكرها غيره .(*1)
{ ولد محمد علي في بلدة صغيرة على بحر إيجه في مقدونيا تسمى قوله عام ۱۷٦۹م، وهو نفس العام الذي ولد فيه نابليون بونابرت ومن نفس البلد التي ولد فيها الإسكندر الأكبر ..
ويرجع أصل محمد علي إلى الجزء الألباني من مقدونيا فهو ألباني ومن هنا يعتبر من رعايا الإمبراطورية العثمانية .
عمل والده إبراهيم أغا في تجارة التبغ وهي الزراعة الأساسية في هذا الإقليم كما كان يستأجر سفنا .
توفي والده مبكرا وكفله عمه ، كانت حياة محمد علي في شبابه مضطربة وعاصفة مما أكسبه روحا قتالية كما كان زعيم عصابة من الشبان المتململين مما سبب قلقا لعمه ...
وقد سارع عمه بزواجه وهو في سن التاسعة عشرة من أمينة فؤاد طوغاي، وهي أرملة شابة وابنة عم حاكم الإقليم والتي كانت سببا في تحسين وضعه الاجتماعي والمادي ، أنجب منها ثلاثة أولاد : إبراهيم وطوسون وإسماعيل .
وتمكن بمساعدة زوجته وثروتها من القيام بتجارة وتصدير التبغ حيث أدار هذه العملية بكفاءة واقتدار ، وعاش طوال حياته يدير الأمور بدقة ومهارة سواء تلك المتعلقة بأموره الشخصية أو ما يخص شئون الدولة.
سئم محمد علي من معيشته في بلدة قوله وكان يقضي وقته يتأمل البحر وينظر بحسرة إلى السفن الغارقة والمغادرة ويتطلع إلى تحقيق أحلامه الكبيرة ، ومن حسن حظه أن تقابل مع بعض التجار الأجانب في الميناء وتعرف على أحد التجار القادمين من مرسيليا حيث كان يتردد كثيرا على بلدته قوله ..
ونشأت صداقة بينهما حيث كان الشاب الألباني متعطشا للمعرفة، والتاجر الفرنسي ليون لديه الخبرة التي مكنته من مناقشة.بعض المشاكل العالمية في ذلك الوقت سياسية أو اقتصادية ..
وبمجرد تولي محمد علي السلطة سارع باستدعاء صديقه الفرنسي إلى مصر لكنه توفي قبل أن يصعد إلى المركب متجها إلى مصر ..
كان ابن عم محمد علي حاكما للإقليم ويكن شعورا طيبا تجاه محمد علي ويتفهم رغبته في السفر إلى الخارج ، واقترح عليه أن يتولى قيادة إحدى السفن الحربية لمطاردة القراصنة في بحر إيجه فقبل هذه المهمة بحماسة شديدة .
ويبدو أن حياته كانت هادئة ومتواضعة إلى أن هيأ له القدر أمرا آخر ، ففي عام ۱۸۰۰ م طلب السلطان العثماني من الحاكم أن يجمع من منطقة قوله كتيبة قوامها ۳۰۰ رجل لتنضم للجيش التركي لمحاربة القوات الفرنسية في مصر .
وقد أذعن الحاكم لطلب ابنه بتعيين شاب هادئ الطباع يكون معه لما يتميز به من ديناميكية وطموح، وهذا الشاب هو محمد علي .
انضم الألبان إلى فيلق قوامه ستة آلاف رجل بقيادة قبطان باشا نفسه وكوتشوك حسين شقيق السلطان سليم في الرضاعة ، تولى كوتشوك قيادة الأسطول إضافة إلى كونه رجل دولة من الطراز الأول .
نزل الفيلق في ميناء أبي قير يوم ۸ مارس ۱۸۰۱ م ، وطوال الرحلة البحرية أصيب ابن الحاكم بدوار البحر وعانى كثيرا من المتاعب ، كما أن المعارك الأولى قد ثبطت من همته فقرر العودة إلى بلده وشجعه محمد علي بحرارة على اتخاذ قراره هذا حتى يأخذ مكانه!!!
وبسرعة فائقة ثم ترقية محمد علي إلى رتبة كولونيل ثم چنرال ، واندفعت عجلة التقدم إلى الأمام ولم تعد تتوقف بفضل كفاءته ونبوغه وعبقريته وحسن استغلال الأحداث لصالحه حتى وصل إلى أعلى المناصب ، ويرجع الفضل لأول ترقية حصل عليها إلى تواجد الحملة الفرنسية بمصر التي أتاحت له فرصة إظهار مواهبه العسكرية . !!!
كان عمره اثنين وثلاثين عاما عندما وصل إلى مصر وهو رجل قصير القامة ذو ملامح دقيقة وصارمة قوي البنية وجذاب خاصة نظراته ذات التأثير المبهر بعينيه الرماديتين ، كما يتميز بمسلك واضح ونظيف وعلى جانب كبير من النظافة حيث يأخذ حماما يوميا .
كان ملبسه يتميز بالبساطة وهو عبارة عن البدلة التقليدية للعثمانيين وعباءة مبطنة بالفرو وبوب وبنطلون منتفخ مع عمامة يرتديها بصورة دائمة .
حصل محمد علي على تدريب عسكري بدائي ورقي إلى ضابط بعد أن كان من ضباط الصف ، وعندما كان في السابعة والأربعين من عمره قرر أن يتعلم القراءة لكنه لم يعرف الكتابة بتاتا ولم يكن يتحدث أي لغة أجنبية بل لم يكن يعرف العربية !!!
وكانت لديه موهبة الذاكرة القوية وغريزته الفطرية التي تمكنه من معرفة الناس وتقدير المواقف السياسية .
لم يكن محمد علي مغامرا رغم توفر روح المغامرة لديه لأن قراراته دائما نتيجة لتفكير ناضج ولا تنفذ إلا بعد مناقشتها لأنه كان محاطا بعدد من المستشارين المهرة ، و كان البعض يقارنونه بالثعلب لما كان لديه من مكر ودهاء وآخرون يقارنونه بالأسد لنشاطه وقوته وروحه العدوانية وبفضل روح المؤامرة والدسيسة لديه فقد تمكن من المناورة بمهارة داخل جهاز الحكومة المعقد للإمبراطورية العثمانية ، وعندما تقدم به العمر ، كان يفضل أن يكون محاطا بشخصيات مثقفة كما كان يستقبل بترحاب العديد من الأوروبيين القادمين لزيارة القاهرة أو الإسكندرية ويحسن وفادتهم ويتمتع بالحديث معهم في شئون بلادهم السياسية والأنظمة الاقتصادية لديهم .
أواخر أيامه انتابته حالة من الضعف والضحك الهستيري بصورة انفرادية حتى إن زواره كانوا يخشونه وأصيب بحالة من السعال التشنجي وبعد أن يفيق منها تعود إليه نظراته الفاحصة والثابتة تجاه زواره .
تميز محمد علي بالطموح الشديد وبالتعطش الشديد للهيمنة السياسية والعسكرية وبالغطرسة والكبرياء ، وعندما يجد نفسه محاطا بالوزراء أو قادة الجيش أو كبار الموظفين ، كان يحلو له أن يتهكم عليهم بروح الدعابة سواء أكانوا أتراكا أو مصريين .
اتبع محمد علي أسلوبا جديدا في الإدارة الحديثة وذلك قبل اتخاذ أي موقف أو قرار نهائي وهو أن الخطر وعدم الأمان من العوامل المهمة للتقدم ، وعليه فإن مرؤوسيه كانوا دائما على أهبة الاستعداد لتنفيذ أوامره بكل دقة ومدركين لأي مخاطر تعرضهم لفقد وظائفهم وليس بالطبع حياتهم .
وقد يلجأ أحيانا إلى وسائل عنيفة مثلما حدث في مذبحة المماليك بالقلعة والتي أظهر فيها قسوة رهيبة وقدرة على السيطرة المباغتة ، فهل اضطر إلى ذلك تحت حجة دواعي المصلحة العليا للدولة ؟
ولا يتفق كريستيان شامب مؤلف كتاب « شامبليون المصري » معه في هذا الرأي حيث ذكر في كتابه أن شامبليون عندما قام برحلة نيلية إلى مدينة طيبة أشار مرشده الذي كان يصطحبه إلى شجرة جميز ضخمة معلق عليها جثث أبرياء مشنوقين لأنهم كانوا غير راضين عن الباشا وآخرين احتجوا على طغيان محمد علي وقد وصل عددهم إلى أكثر من ثلاثمائة جثة !!!
لم تلعب النساء في حياته دورا بارزا ، لأن زواجه بأمينة كان زواجا تقليديا هادئا رغم أنها كانت زوجته الشرعية الوحيدة ويعاملها بحب واحترام ، وبعد أن أنجبت له خمسة أطفال ، ترك محمد علي بلدته قوله متجها إلى مصر ولم تلحق به زوجته إلا بعد عشر سنوات .
وكان له حريم لرعايته كباشا ومنزل مدني وآخر عسكري ، وعرف عنه أنه كان لديه عشرات المحظيات أنجب منهن ۱۷ ولدا و ۱۲ بنتا ، لكن كل ذلك لم يكن شغله الشاغل وإنما كان يهتم فقط بأولاده الشرعيين لحل مشاكل الخلافة من بعده ، وقد حرص على أن يواصل أولاده الآخريين مراحل التعليم .
------------------------------------------------------------------
كتاب "كل رجال الباشا" للدكتور خالد فهمي (*2) نستخلص منه هذه المقدمة :
كثير من المؤلفين حرفوا الترجمة الحقيقة لوثائق محمد علي المكتوبة بالتركية لإظهاره بمظهر المصلح العظيم، وبالرجوع إلى أصل هذه الوثائق يظهر كم كان محمد علي يحتقر المصريين ويزدريهم ويراهم كالبهائم ولا يناسبهم ما يناسب الشعوب الأوروبية المتنورة.
المشكلة الأساسية في التاريخ المكتوب لمحمد علي أنه يقدس شخصية الحاكم الأبوي ويهمل شأن المصري أو حقه في صناعة تاريخه، لذا يسود معنى أنه رجل سبق عصره وأن شعبه لم يفهمه ومن يقرأ الوثائق بالتركية يعرف أن آخر ما فكَّر فيه محمد علي هو المصريين، إنما انحصر تفكيره في صناعة مجد له ولسلالته.
وقد ساهم عدد من العوامل في صناعة التاريخ المشهور عن محمد علي، أهمها :
▪︎ صنع تاريخ محمد علي في أروقة السلطة، وبدأ هذا منذ عهد محمد علي نفسه الذي كان حريصا على تقديم صورته للأجانب بأنه المصلح المحاط بالجهلة ويحكم شعبا من المتوحشين والذي أحيا مصر من الموات وبأنه المتنور من بين ولاة السلطنة العثمانية المتخلفة. وقد لاقى هذا الوصف للمصريين والعثمانيين هوى عند الأوروبيين الذين اعتادوا النظر للمسلمين بدونية وعنصرية فانتشر هذا في كتاباتهم. وكان محمد علي يستعد للقائهم بصناعة أجواء مسرحية تضفي عليه مهابة ورهبة.
▪︎ - ثم إن مطبعة بولاق (جهاز الإعلام الرسمي حينذاك) كانت تطبع الكتب التي تحمل مدح الباشا وتتجاهل مؤلفات من ينقدونه (كتاريخ الجبرتي مثلا).
▪︎- ساعدت فرنسا حليفة محمد علي في نشر ودعم هذه الصورة عنه.
▪︎ - استمرار حكم أولاده من بعده، مما رسَّخ هذه الصورة عنه وأطال عمرها، وبعض أولاده مثل الملك فؤاد حرص على "صناعة" تاريخ أسرته، وصلت إلى حد دفع رشاوي لمؤرخين أجانب لكتابة تاريخ لجده وسرعان ما ترجمت هذه الدراسات فضلَّلت الكثيرين لما لها من زخرف موضوعي وطلاء بحثي مزيف.
▪︎ - أدى مجهود الملك فؤاد في جمع الوثائق الخاصة بأسرته لأن تحتل هذه الوثائق مكانة خاصة في دار الوثائق، ترتيبا واهتماما وفهرسة وترجمة، مما يجعلها فخًّا يجذب إليه الباحثين الذين يجدون مشقة في الوصول إلى الوثائق الأخرى التي تبرز الجوانب المهملة في تلك الفترة، سواء وثائق العثمانيين أو الوثائق غير الصادرة عن مؤسسة السلطة المركزية.
▪︎ - ثم لاقى هذا التمجيد لمحمد علي هوى عند شرائح أخرى من المصريين، فالمؤرخون والوطنيون أرادوا أن يكون محمد علي صانع النهضة والتحديث نكاية ومضادة لدعوى الإنجليز أنهم من صنعوا مصر، والقوميون أرادوا أن يكون محمد علي صاحب مشروع توحيدي عربي نكاية في العثمانيين والأوروبيين، ففي ظل حالة الانهيار العام يلتمس البعض زعيما طموحا صاحب مشروع ! ...
-------------------------------------------------------------------
ومن كتاب : " قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين" للدكتور
زكريا سليمان بيومي (*3)
{ ️ على الرغم من اعجاب العديد من الكتاب والمؤرخين في الشرق والغرب بالمؤرخ الإسلامي عبد الرحمن الجبرتي لما اتصف به من الحيدة والموضوعية والدقة إلى حد كبير (*4)..
إلا أن بعضهم من دعاة العلمانية قد أعرض عن الالتزام برأيه في محمد علي باشا ؛ التزاما بمنظور فکري ليس له جذور محلية ، فما هو رأي هذا المؤرخ المسلم الدقيق في محمد علي ؟
👌 "ويرى البعض أن الجبرتي قد تأثر في موقفه من محمد علي بامرين أولها تأثر الجبرتي باجراءات محمد علي تجاه أراضي الالتزام، والثاني دور محمد علي في قتل ابن الجبرتي، ولكن الجبرتي لم يفر من إجراءات محمد علي، كما أن رأيه في محمد علي كان سابقا لمقتل ابنه." (*5)
لقد وصف الجبرتي محمد علي ، من خلال مسيرة الأحداث وليس الخصومة أو عداء شخصي بأنه :
" مخادع كذاب يحلف الأيمان الكاذبة ، ظالم لا عهد له ولا ذمة ، يضمر السوء واستخدام العسف والجور ؛ في نفس الوقت الذي يعد فيه بالعدل، لا يخفف من عسفه وظلمه واستبداده استجداء شیخ "
ولقد دعت هذه الصفات البعض بأن يصور محمد علي بأنه مكيافلي، أو أنه تعلم على فكر مكيافلي ، فقيل له مرة أن مكيافلي ألف كتابا إسمه الأمير، فكلف أحد النصارى المحيطين به - وقد اعتاد أن يكون أغلب المحيطين به من النصارى واليهود - واسمه أرتين ؛ بترجمة هذا الكتاب وأن يوافيه كل ليلة بصفحة ,مترجمة ، فلما وصل إلى الصفحة العاشرة توقف عن المواصلة قائلا بأنه يمتلك من الحيل ما لم يخطر لمكيافيلي على بال !! (*6).
وقد علق بعض الكتاب على ذلك بأن هذه الصفات هي التي رشحت محمد علي ، لأن يصبح واليا على مصر ، وأن اكتسابه لهذه الصفات قد جعله من أهم السياسيين الشرقيين الذين سلكوا درب السياسة بمفهومها الأوروبي.
ولا شك أن « محمد علي ، قد تربى على هذه الصفات منذ صباه سواء لكون موطنه الأصلي ألبانيا أوروبية الموقع أم لأنها قد لفحتها قبل غيرها - رياح التغيير ودخلتها الفلسفات الأوروبية بعد الضعف الذي ألم بدولة الخلافة العثمانية ...
كما أنه كان تاجرا وابن تاجر فنظر إلى كل شيء بمنظار الكسب والخسارة المادية دون أن يعبا كثيرا بالقيم الأخلاقية التي تحظى باحترام الشرقي المسلم على الأقل في شريعته التي يحبها ويسعى للالتزام بها، والتي كانت وما زالت تشكل الوعاء الأساسي الذي يحدد ميزانه في الحكم على الأحداث والأشخاص . (*7)
كيف وصل محمد علي إلى الدولة ؟
لقد عاشت مصر حالة من الفوضى والاضطراب في أعقاب خروج الفرنسيين سنة ۱۸۰۱م ، فلم يصبح بمقدور أمراء المماليك أن يستعيدوا ما كان لهم من سطوة ونفوذ سواء لهزيمتهم أمام الفرنسيين أم للجهود التي بذلها الفرنسيون خلال مدة بقاء الحملة في إضعافهم واجتثاث ما كان لهم من شعبية لدى المصريين من جذورها (*8)
وأسهمت الحملة كذلك في هز ثقة المصريين في قدرة الدولة العثمانية على القيام بدورها التقليدي في حمايتهم، وأصبحت الساحة مهيأة لظهور أي من المغامرين الطامعين في السلطة.
على أن هناك عنصرا آخر قد أفرزته هذه الظروف يتمثل في القوى الشعبية في مصر حيث أيقظت الحملة روح الجهاد الإسلامي ضد المعتدين "الكفرة" ، في صفوف المصريين، ولم يكن ذلك دليلا على اليقظة الوطنية أو القومية التي حاول الفرنسيون إشعالها كما يرى البعض ولكنه كان جهاد ضد عدو المسلمين، فكانت قيادته في الجامع الأزهر وغيره من المساجد ، وزعماؤهم شيوخ الأزهر ورجال الدين، لكن القلة التي ساندت الفرنسيين واندثرت برحيلهم فلا يقام لها وزن في مسيرة الأحداث.
وكان العثمانيون قد قرروا إحكام سيطرتهم على مصر من خلال الوالي دون أن يعودوا إلى سياسة الاستعانه بالمماليك في الحكم، وقد أدى ذلك إلى إثارة مخاوف بريطانيا على مستقبل الأوضاع في مصر وجعلها تفكر في مساندة أحد أمراء المماليك وهو محمد بك الألفي في الوصول إلى الحكم ..
لكن بريطانيا وجدت أن استخدام القوة في سبيل ذلك يضر بعلاقتها بالدولة العثمانية الأمر الذي قد يؤدي إلى حدوث تقارب بين الدولة العثمانية وبين الروس أو الفرنسيين وبخاصة أنها - أي بريطانيا - لم يكن من أهدافها في ذلك الوقت السيطرة الدائمة على مصر .(*9)
وكانت بريطانيا تفضل سياسة المحافظة على ممتلكات الدولة العثمانية في هذه الفترة .
ووسط هذه الظروف التي هيأت للعثمانيين إمكانية تنفيذ سياستهم تم تعیين خسرو باشا واليا على مصر سنة ۱۸۰۲ م ، ولكن لم يمض على توليه سوی عام ونصف إلا وثار عليه الجند الأرناؤود (الألبان) واضطروه للهرب ..
واصبحت القيادة بيد قائد هذه القوة وهو طاهر باشا الذي أعلن المشايخ اختياره قائم مقام ليحل محل الوالي المطرود ، لكنه هو الآخر - أي طاهر باشا - لم يستمر سوى عشرين يوما وقتله أحد جنود الإنكشارية في ۲۹ مايو سنة ۱۸۰۳ م ليتيح الفرصة لتولي محمد على قيادة القوة الألبانية.
ومع أن الوثائق لا توضح أسباب ثورة الجند الأرناؤوط (الألبان) بالذات على الوالي خسرو باشا وإبعاده عن الولاية ، وكذلك كيفية وأسباب اغتيال طاهر باشا قائد هذه القوة إلا أن الأمر ينبغي أن لا يفسر تفسيرا عفويا .
ومما يؤكد ما نرمي إليه أنه في أعقاب قيام الدولة العثمانية بتعيين وال جديد هو "أحمد باشا" ، أدرك محمد علي أن الأمر بهذا قد يخرج من يده فأسرع بالتحالف مع عثمان بك البرديسي أحد زعماء المماليك والذي كان يميل إلى الفرنسيين، وطرد الوالي الجديد بعد يوم واحد فقط من توليه الولاية ، كما هاجم هو و حليفه البرديسي محمد بك الألفي الذي كان على علم بصلته بالإنجليز.
وتترك هذه الأحداث أيضا تساؤلات محيرة لماذا أطاح محمد علي بالوالي الثاني الجديد لو أنه لم يكن طامعا في السلطة؟
ولو سلمنا بطمعه في السلطة فهذا يدعونا للتأكد من أن له دورا في الأحداث السابقة التي بدأت بالثورة على الوالي السابق خسرو باشا !!
ومما يزيد هذا الرأي صحة أن محمد علي لم يتحالف مع "عثمان بك حسن" -أحد زعماء المماليك- الذي كان يرى ضرورة الارتباط بالدولة العثمانية وفضل التحالف مع أشد زعماء المالية قربا من الفرنسيين وهو عثمان بك البرديسي ، وهو أمر يحتاج كذلك إلى تفسير ووضوح .
ولم يستمر التحالف بين محمد علي والبرديسي سوى شهر واحد وابتعد عنه محمد علي بعد ثورة أهالي القاهرة عليه لكثرة ما فرضه عليهم من الضرائب ، ووجد محمد علي أن الفرصة سانحة أمامه للتقرب إلى الأهالي والمشايخ والعلماء فانضم إليهم ضد البرديسي فكسب بذلك ودهم وتأييدهم.
ومما لا شك فيه أن محمد علي قد لعب دورا واضحا في إثارة الأهالي على البرديسي بعد أن تحقق غرضه خلال الشهر الذي تحالف فيه معه في طرد الوالي الجديد وإبعاد الألفي وقواته ، فقد كان محمد علي على صلة بالمشايخ والعلماء منذ قيامهم بتعيين قائده طاهر باشا قائم مقام في أعقاب طرد خسرو باشا، كما أن الشهر الذي تحالف فيه البرديسي لم يكن كافيا لأن يفرض فيه والبرديسي من الضرائب ما يثير الجماهير عليه ، كما أن حماية جند محمد علي الثورة الأهالي من رجال البرديسي بعد إعلانه المفاجيء بالانضمام إلى الأهالي قد أسهم في اتساع هذه الثورة واستمرارها حتى خرج البرديسي وقواته من القاهرة .
لقد أدرك محمد علي بعد أن نجح في كسب ود المصريين أنه قريب من تحقيق أطماعه في الولاية فهم القادرون على فرضه كما فرضوا قائده طاهر باشا من قبل، وأنه لم يبق أمامه سوى أن يتخلص من المماليك.
وقد استغل ذكاءه في إقناع العلماء والمشايخ بالكتابة إلى السلطان لاختيار خورشید باشا محافظ الإسكندرية واليا، وكان محمد علي يرمي من ذلك إلى تأكيد صلته بالعلماء من خلال حرصه على دورهم في اختيار الوالي، وكذلك من خلال تعففه أماهم عن المنصب، ..
وفي نفس الوقت إظهار ما له من فضل على الوالي الجديد فتصبح له اليد الطولى في البلاد، وكذلك إقرار مبدأ الأخذ برأي المصريين أمام الباب العالي حتى يكون ذلك مقدمة لما يخطط له بعد ذلك.
وتفرغ محمد علي بعد ذلك لإبعاد المماليك عن القاهرة تم تعقبهم في الصعيد حتى ضمن ضعف قدرتهم في التأثير على الأحداث أو اتصالهم بالقوى الأوروبية التي قد يسهم تدخلها في فشل ما خطط له.
وبعد أن حقق نجاحا إلى حد كبير في هذا الأمر عاد مكشرا عنا أنيابه للوالي خورشید باشا الذي لعب دورا في تعيينه وازداد تقربا من.العلماء وعلى رأسهم السيد عمر مكرم، نقيب الأشراف.
وأدرك.الوالي خورشید باشا أبعاد ما يخطط له و محمد علي ،، فسعى إلى تقليم أظافره وإبعاده عن البلاد ونجحت مساعيه لدى الباب العالي باستدعاء القوة الألبانية التي يقودها محمد علي - إلى الدولة العثمانية...
وعادت القوة دون محمد علي وقليل من الجند حيث أمر العلماء والمشايخ على بقائه في مصر ، فجدد الوالي مساعيه لدى الباب العالي واستصدر فرمانا بتعيين محمد علي ، واليا على جدة،..
لكن ذلك لم يكن يتفق وأطماع , محمد علي ، فرفض تنفيذ الفرمان - وفي هذا عصيان لأوامر السلطان - وظل محتميا بسلطة المشايخ والعلماء .
ورد محمد علي على ذلك بإثارة العلماء والمشايخ يساندهم الأهالي على خورشید باشا ..(*10)
ويصور الجبرتي كيف كان محمد علي ، يتردد على عمر
مکرم نهارا وليلا يعاهده ويتعاقد معه سرا بل ويحلف له الأيمان الكاذبة.على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع والإقلاع عن المظالم ولا يفعل أمرا إلا بمشورته ومشورة العملاء وأنه متى خالف الشروط عزلوه وأخرجوه - وهم قادرون على ذلك فيتورط الخاطب - أي بذلك القول ويظن صحته وأن كل الوقائع زلابية.... (*أحمد خاكي ٣٨١) ..
وتقدم العلماء إلى القاضي بشكوى ضد خورشید ، في ۱۲ مايو سنة ۱۸۰٥م، بعد أن خدعهم , محمد علي ،، يشكون فيها من استغلاله وسوء تصرفات قواته ، وفي اليوم التالي أسفر العلماء عن نواياهم وبشكل يؤكد دور محمد علي ، في تحريك الأحداث فأعلنوا عزهم للوالي خورشید باشا وتعيين " محمد علي" ، واليا مكانه .
وبدا "محمد علي" ، في دور الممثل البارع في أداء دوره حيث أظهر تعففه عن قبول المنصب قائلا : "أنا لا أصلح لذلك ولست من الوزراء ولا من الأمراء ولا من أكابر الدولة "
وقد علق «الجبرتي ، على ذلك بأنه كان رياء ونفاقا من محمد علي ، حتى يتمسك الحاضرون به ، وفعلا قالوا جميعا مخدوعين قد اخترناك.لذلك برأي الجميع والكافة ، والعبرة رضا أهل البلاد وجهروا بخلع خورشید باشا من الولاية ،،
وقام السيد عمر مكرم ، والشيخ الشرقاوي ، بتقليده خلعة الولاية، ثم حاصروا " خورشید باشا"، في القلعة حتى اضطر للنزول على رغبتهم وحتى وافاهم السلطان بفرمان تعیین "محمد علي" واليا .(*10) }
*زكريا سليمان ، قراءة جديدة، ص١٥٩-١٦٥
-------------------------------------------------------------------
🔹️ لقد جاء محمد علي الى مصر على رأس فرقة من الروملي لإخراج الفرنسيين منها، واستطاع بمكره ودهاءه أن يكسب ثقة العلماء في مصر وسعى في القضاء على منافسيه على ولاية مصر بطرق ملتوية وماكرة ؛ حتى أصبح والياً على مصر ابتداءً من 20 ربيع الأول سنة 1220هـ الموافق 18 يونيو سنة 1805م ...(*11).
وعلى الرغم من أن محمد علي قد ابدى حماساً شديداً لكي يصبح خادماً مطيعاً للسلطان (*12)، وأبدى في سبيل ذلك كثيراً من عبارات التذلل والخضوع للسلطان ودولته (*13)،
إلا أن السلطان كان على وشك أن يدرك أبعاد هذه العبارات، مظهراً بذلك تخوفه من هذا الوالي الجديد، فأمر بنقله عن ولاية مصر ، إلا أن تدخل العلماء مرة أخرى قد جعل السلطان يصدر فرماناً آخر بتثبيته على ولاية مصر في 24 شعبان سنة 1221هـ/ 6 نوفمبر 1806م .....(*14).
ومن هنا بدأ محمد علي في تدعيم مركزه الشخصي وتثبيت الولاية في شخصه، وبالتالي في سلالته وهناك اسئلة كثيرة تحتاج الى اجابة منها :
● ماحقيقة الدور الذي قام به محمد علي من أجل المصالح الفرنسية والبريطانية ؟
● ومن الذي كان خلف القضاء على الدولة السعودية الأولى وعلى ضم الشام الى مصر؟
ومن خلال هذه الفقرات التى سندخل فيها العديد من المصادر و المقالات المتنوعة نترك للقارئ تكوين رأي و الإجابة على تلك الأسئلة .
-------------------------------------------------------------------
(*1) محمد علي مؤسس مصر الحديثة ، ترجمه للعربية محمد رفعت عواد طبع بالقاهرة ٢٠٠٣ .. المشروع القومي للترجمة .. ص ٢٥- ٢٨
(*2) كل رجال الباشا ؛ د. خالد فهمي والكاتب شخصية أكاديمية معروفة وتكاد تكون شهرتها بسبب هذا الكتاب وحده الذي أُلِّف أصلا بالإنجليزية كرسالة للدكتوراه قضى فيها عشر سنوات، ثم نقله شريف يونس إلى العربية بترجمة رائقة.
(*3) قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين ، د. زكريا سليمان بيومي أستاذ التاريخ بكلية الآداب جامعة المنصورة و البنات الإسلامية ، ط عالم المعرفة جدة السعودية ١٩٩١ .
(*4) د. محمد أنيس : مدرسة التاريخ المصري في العصر العثماني ص ۲۷، ۰۲۸، د. ليلى عبد اللطيف: تاریخ ومؤرخي مصر والشام إبان العصر العثاني ص۲۱۳.
(*5) انظر: د. أحمد عزت عبد الكريم : الجبرتي مؤرخ مصري على مفترق الطرق ص ۹.۲۷ د. إبراهيم احمد العدوي الصراع الفكري بين أجيال العصور الوسطى والعصر الحديث کما صوره الجبرتي بحث ضمن مجموعة أبحاث ندوة الجبرتي - القاهرة سنة ۱۹۷۹ م... ص ۸۸.
(*6، *7) أحمد خاکي : الجبرتي ومحمد علي، ضمن مجموعة بحوث الجبرتي القاهرة سنة ۱۹۷۱م ص ۳۷۹، ۳۸۲،۳۸۱.
(*8،*9،*10) د. عمر عبد العزيز ص ۲۹۹-٣٠٤ تاریخ المشرق العربي ۱٥۱۷-۱۹۲۲م - دار المعرفة الاسكندرية سنة ۱۹۸٤ م.
؛ وأحمد خاكي ص ٣٨١
(*11) انظر: حروب محمد علي في الشام، د.عايض الروقي، ص32.
(*13) وثيقة تركية رقم 50/1-248 في ربيع الأول 1230هـ، الرياض .
(*14) انظر : تاريخ الدولة العلية العثمانية، محمد فريد ص391.

تعليقات
إرسال تعليق